هل تذكر الفيلم القديم «أول ٥٠ موعد غرامي»؟ تروى أحداث الفيلم قصة «لوسي» التي تعاني من حالة فقدان الذاكرة الأمامية إثر تعرضها لحادث سيارة، مما يعني أنها في كل يوم جديد تنسى تمامًا كل أحداث اليوم الذي يسبقه وكأنها لم تحدث قط. في يوم من الأيام، تلتقي «لوسي» بشاب يدعى «هنري روث»، يقضيان وقتًا ممتعًا سويًا، ويتفقان على أن يلتقيا في اليوم التالي، يأتي اليوم التالي ويكتشف «هنري» أن لوسي لا تذكره ولا تذكر أي حوار دار بينهما بسبب مشكلة فقدان الذاكرة هذه، مما يضطر هنري إلى فعل المستحيل كل يوم..كل يوم!.. ليجعل لوسي تتعرف إليه وتعجب به مع علمه المسبق أنها ما إن تستيقظ في صباح اليوم التالي ستنسى أنه موجود في الحياة أصلاً.
إذا كنت تعتقد أنني أحكي لك قصة «لوسي وهنري» لأنني في مزاج رومانسي فأنت مخطئ عزيزي القارئ، (هممم حسنًا، ربما لستَ مخطئًا ١٠٠٪)، لكن ما يستدعي التأمل في قصة الفيلم هو انضباط «هنري» للوصول إلى هدفه ألا وهو جعل «لوسي» تتعرف عليه وتحبه كل يوم من جديد.
الانضباط من الموضوعات التي أصبحت تشغل تفكري مؤخرًا، لأنه بالرغم من بديهية فكرة أنه عامل محوري في بناء أي شيء ذو قيمة حقيقية وأثر ملموس، إلا أنه من أكثر الأمور التي نفشل فيها كبشر.
عندما أقول انضباط فأنا أقصد القدرة على التحكم بالذات للالتزام بتغييرات معينة من أجل الوصول لهدف ما. الانضباط يقتضي الاستمرارية والتكرار وإلا لن يكون هناك التزام، وبالتالي لن تحدث تغييرات، وبالتالي لن نصل لهدفنا الذي نريد تحقيقه. وهذا المفهوم ينطبق على معظم جوانب الحياة – إن لم يكن جميعها – لكني في هذه التدوينة سأركز على فكرة الانضباط بهدف تعلم/تطوير المهارات أو المعارف.
الانضباط في تعلم مهارة/معرفة جديدة
بالرغم من أني أكتب وأدون منذ عدة سنوات، إلا أنني هذه السنة قررت أن أبني علاقة جدية مع الكتابة بشكل غير مسبوق، وعندما أقول بـ “جدية” فأنا أقصد أن أواظب على الكتابة بشكل دوري دون انقطاع. والذي قادني لهذا القرار هو أنني أستوعبت أن العشوائية والتشتت، أو بمعنى آخر عدم الانضباط، لن تأخذني إلى أي مكان…أنا حقًا أحب الكتابة ولدي دوافع كثيرة للكتابة لكن دون انضباط لن تتجسد هذه المحبة إلى قيمة تساهم في تنميتي أنا والآخرين.
إن أردت أنت أيضًا أن تبني علاقة متينة مع مهارة/معرفة معينة، فربما عقلية الـ “أول ٥٠ موعد غرامي” ستساعدك من خلال هذه الاقتراحات الأربعة:
١) هدف واحد في الوقت الواحد
في قصة «هنري ولوسي»، كان لدى «هنري» هدف واحد، ألا وهو أن يجعل «لوسي» تتعرف عليه وتتذكره، فقط، هذا ما كان يركز عليه طوال يومه. أنا مؤمنة جدًا بمقولة «من أراد كل شيء لن يصل لأي شيء». وإن كنت مثلي، عزيزي القاري، فعلى الأرجح لديك قائمة طويلة عريضة بأمور كثيرة تريد أن تكتسبها، تتعلمها، تمارسها قبل أن تموت، لكن ما يحدث في العادة هو أننا لا نحقق معظم ما على هذه القائمة. وأعتقد أن أحد الأسباب وراء ذلك هو أننا لا نركز ولا نخلق أولويات بل نريد أن نقوم بكل شيء في الوقت ذاته! وبالتالي تكون جهودنا ومصادرنا (كالوقت، المال) مشتتة. مثلاً إذا أردت أن تصبح كاتبًا، وتريد أن تحترف كرة السلة، وتريد أن تتقن اللغة الألمانية، وتصبح طباخًا ماهرًا في نفس الوقت، فعلى الأرجح لن تفلح في ذلك، إلا إن أعطيت كل أمر من هذه الأمور وقتها وحقها في الاهتمام والتركيز، وتعاملت مع كل مهارة كمشروع له أولوية لفترة زمنية معنية.
٢) مجموعة داعمة
إحدى الأمور التي أعانتني على الانضباط في الكتابة هو أنني قبل عام من الآن بدأت مع اثنتين من صديقاتي ما أسميه بـ “Weekly writing date” أو موعد أسبوعي مع الكتابة بهدف تشجيع بعضنا البعض على الالتزام بالكتابة بشكل دوري. في ديسمبر هذا أكملنا حوالي ٥٠ لقاء/موعد (نعم، من هنا أتت فكرة هذه التدوينة). في هذه اللقاءات الأسبوعية، عادة ما نخصص نصف الوقت للكتابة، والنصف الآخر للنقاش حول ما نكتب أو موضوعات أخرى، وأحيانًا تتحول اللقاءات إلى جلسة دعم نفسي! إذا ما كانت إحدانا تمر بتحديات معينة، أيًا كانت الطريقة التي يسير بها اللقاء، الأهم هو وجود رفقة داعمة تعيننا في رحلتنا التي اخترناها.
تلهمني كثيرًا آية «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ»، أعتقد أننا نتوهم أحيانًا أننا أقوياء بما فيه الكفاية لتجاوز الصعوبات وحدنا، لكننا في حقيقة الأمر نكابر، كل إنسان يحتاج إلى رفقة داعمة تعينه وتصبّره في رحلة نموه الوجداني والمعرفي. في قصة «هنري ولوسي»، لا يوجد علاج لحالة «لوسي» لذلك في كل يوم تتلقى صدمة نفسية عندما تكتشف أنها لا تتذكر أي شي من حياتها من بعد وقوع الحادث، إلا أن ما يخفف عليها هذا الألم هو وجود مجموعة معها (والدها، وأخوها، صديقة والدتها، هنري) هؤلاء يشكلون مجموعة دعم تعينها على التعامل مع المرض.
لكن فكرة المجموعة/الرفقة الداعمة هذه تتجاوز محيط العائلة والأصدقاء المقربين، يمكنك الآن – أكثر من أي وقت مضى – أن تجد بسهولة من يشاركك نفس الاهتمامات والأهداف لتبدأوا تواصل دوري يساعدكم على النمو والتطور سويًا. إذا لم تجد أشخاص من محيطك، يمكنك البحث أونلاين، هناك منصات مختلفة رائعة مثل موقع meetup.com أو تطبيق منصة واللذان يسهلان مهمة إيجاد أشخاص يشاركونك اهتمامتك/أهدافك إضافة إلى تسهيل عملية ترتيب لقاءات دورية معهم.
٣) مهمة “تلقائية“
من أهم الأمور التي تعين على الانضباط في تعلم أو ممارسة مهارة/معرفة جديدة هي أن نحولها إلى فعل تلقائي لا يستدعي جهد التخطيط. مثلاً، لدي أوقات معينة مخصصة للكتابة، هذه الأوقات ثابتة لا تتغير بغض النظر عن ارتباطاتي/مهامي الأخرى وإن كانت طارئة، فأنا أخطط جدولي حول مواعيد الكتابة، وليس العكس – أي أنني لا أرتب انشغالاتي أولاً ثم أبحث عن أوقات فراغ للكتابة! لأن هذا ببساطة لن يساعد في تحقيق الأهداف. في حالة لقاءاتنا الأسبوعية أنا وصديقاتي، اخترنا قبل سنة مكان واحد ووقت واحد للالتقاء، ولم نغيرهما طوال السنة لأننا لانريد دوشة “فين/متى حنتقابل هذا الأسبوع؟”. كلما جعلنا الوقت والترتيبات روتينية لا تتغير، كلما ضمنا أننا لن نستغرق جهد ووقت لايجاد فرصة لتعلم/ممارسة المهارة/المعرفة، وبالتي نجعل الالتزام والاستمرارية أمران قابلان للتحقيق. أيضًا أؤمن أنه كلما قللنا عدد القرارات اليومية، كلما أصبح لدينا مساحة ذهنية ونفسية أكبر تمكننا من التركيز على ما هو مهم فعلاً في حياتنا. يعلق آيتيكن تانك، مؤسس JotForm.com، على هذه النقطة فيقول في إحدى مقالاته:
تأجيل القرارات يخلق التوتر. عندما يكون عقلك مليئًا بالعديد من الخيارات المختلفة – بدءًا مما يجب تناوله للغداء إلى أي مرشح يجب توظيفه – من المستحيل تقريبًا الحصول على يوم عمل مثمر. الآن، تخيل أن عقلك عبارة عن لوحة بيضاء. في كل مرة تتخذ فيها قرارًا، فإنك تقوم بمسح المزيد من الشخبطة من على هذه اللوحة. وهكذا، يصبح [عقلك] واضح وجاهز للتفكير الإبداعي.
هل تعرف ماذا فعل «هنري» ليجعل مهمة تذكير «لوسي» مهمة تلقائية لا تستدعي الجهد والتخطيط؟ سجل شريط فيديو يشرح لها كل القصة، وأصبح يضعه بجانب سريرها مع رسالة تقول لها «شاهدي شريط الفيديو»، فتشاهده كل يوم حينما تستيقظ، تتلقى الصدمة، تستوعب، ثم تكمل بقية يومها.
٤) الدافع
حسنًا، لنكن صريحين مع بعضنا البعض. تعلم أي مهارة أو مجال جديد يبدو في البداية مغامرة مثيرة ومرحة لكن ما أن ندخل “في الجد”، نكتشف أن هناك الكثير من العناء الذي يصاحب هذه المغامرة، وهذا العناء هو الثمن الحقيقي الذي ندفعه مقابل اكتسابنا للمهارة/المعرفة الجديدة. الذي يحدث معنا عادة هو أنه بعد ما يزول مفعول الإثارة التي تصاحب البدايات، نستوعب أننا لسنا مستعدين لدفع ثمن التجربة – أي تحمل المشقة والعناء. لذلك تجدنا نتوقف في منتصف الطريق ولا نكمل. فهم دوافعنا قبل أن نبدأ في خوض التجربة سيساعدنا كثيرًا؛ لماذا نريد أن نتعلم/نطور هذه المهارة أو المعرفة حقًا؟ لابد أن يكون الدافع قوي بما فيه الكفاية لنستطيع تحمل العناء المصاحب للتجربة. أو ربما نكتشف أن الأمر الصائب هو ألا نكمل!
كثيرًا ما أتلقى أسئلة من القرّاء من نوع “كيف استطعت الالتزام بالكتابة والنشر كل يوم سبت؟” لدي الكثير مما يمكنني قوله هنا ربما سأخصص تدوينة منفصلة في يوم ما. لكن ما لا يعرفه الكثيرون أنني دائمًا أجد نفسي على وشك التوقف وعدم الاستمرار، حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات، أتمنى لو أني فقط أغلق اللابتوب الآن وأذهب لتناول الفطور مع صديقاتي على البحر. إلا أن دوافعي للكتابة دائمًا ما تجعلني أطرد فكرة التوقف، وربما أتوقف مستقبلاً إن تغيرت هذه الدوافع..لا أعرف ماذا يمكن أن يحدث في المستقبل، لكني الآن أشارك «هنري» دافع الحب الذي جعله يقوم بكل ما يقوم به يوميًا من أجل «لوسي».
الصراحة، قصة/فكرة فيلم «أول ٥٠ موعد غرامي» ليست منطقية (It just doesn’t make sense!)، لكن فكرة أن الانضباط أحد أسرار هذه الحياة والتجربة البشرية بشكل عام هي فكرة جدًا منطقية بالنسبة لي. «المقدرة على ضبط الذات هي في الأساس عملية نمو للذات» – كما يقول الطبيب النفسي، إم سكوت بيك – فأي حياة تلك التي نعيشها دون أن نسعى لأن ننمي فيها ذواتنا؟
–انتهى–
انضم إلى قائمة القرّاء الرهيبين حتى تصلك مقالات مثيرة من هذه الغرفة الصغيرة!
رائعة جدا جدا
جعلت هذا الصباح افضل ما يمكن
شكرا شكرا شكرا 💜
كل الشكر لك سماح، سرني مرورك على التدوينة
رائعة العنود وكتاباتك أروع
أتمنى أن تستمري في الكتابة لأنك بالفعل أثريتينا وأثريتي أفكارنا، ولا مانع من التوقف مؤقتًا للإلتقاط الأنفاس 😄
شكراً لك
سبحان الله، الأيام السابقة كنت أفكر أن بيني وبين النجاح (انضباط)،،
رائعة جدًا العنود 💗
جميل جدا استمعت جدا بقراءة المقال
هذا ماكنت احتاجه ♥️♥️
شكرًا آمنه
قراءة رائعة لما في انفسنا وتحليل رائع لفكرة الفيلم كم اتمني انضباط هنرى واتمني اكثر رفقتك للكتابة والنقاش حول الكتابة
ممتاز افكار رائعة وكاتبة أكثر روعة
تسلم خليل
الإنضباط والألتزام أساس النجاح
شكرا لك وللتزامك بتقديم مقالاتك لقراءك و اللتي ننتظرها كل سبت
https://yazeed.me/2017/01/19/%d8%a3%d9%86%d8%b7%d9%84%d9%82-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%af%d9%88%d9%8a%d9%86/
بدأت متابعتك مؤخراً واجد نفسي منبهراً بتدويناتك العظيمة.
وانا اقرأ هذه التدوينة أتذكر مشاهدتي لهذا الفيلم والذي إن لم تشاهديه، فأنصحك بمشاهدته.
تحياتي
يزيد
شكرا لك يزيد، كلامك يعني لي الكثير والله! نعم شاهدت فيلم جولي آند جوليا قبل فترة! أحببت راااائع !!
فيلم her https://goo.gl/search/Her
🎥 Her
لي اسبوع ما قريت وأحاول ارجع اكمل قراءة كتابي و قريت تدوينتك بدون ما احس بنفسي ، كل التوفيق 💙.
تدوينتك مبهره ماشاءالله تبارك الله، سأتعلم منك.. ✨💕
اول مقال في السنة الجديدة … ولكن ما زلت حزين على فيلم HER :p
“الصراحة، قصة/فكرة فيلم «أول ٥٠ موعد غرامي» ليست منطقية (It just doesn’t make sense!)”
الحب غير منطقي، ولم ولن يكون.
الحب شيء والرومانسية التي تروج في الأفلام والأعمال الأدبية شيء آخر، ومحاولة اقناع الناس أن الرومانسية هي الحب هي أيضًا أمر غير منطقي
استمتعت بالمقال شكرا لك🌸
جميل جداً ، أعجبني ماكتبتِ وأحببت السرد والوصف سأبدأ بمتابعتك منذ هذه اللحظة✨